كاتب هذه السطور من المؤمنين بأن الكيان الصهيوني كله ثكنة عسكرية، لا فرق لديه بين مدني وعسكري، فالأصل هو العدوان أو كما قال أحد فلاسفتهم ذات يوم (إن إسرائيل بمثابة جيش بنيت له دولة)، بهذا المعنى كان عدوانها الدائم على أمتنا العربية ،ودولها وتدميرها الوحشي لكل معالم الحياة في سلسلة لا تنقطع من نازية يصغر إلى جوارها فعل هتلر، ولعل في تأمل ما جرى في لبنان صيف العام 2006 واليوم في غزة والضفة (2007 )ما يكفي للتأكيد على هذه الحقيقة، في مواجهة هذه البنية، وليس فحسب الاستراتيجية العدوانية، نطرح سبل المواجهة عربياً وهي متعددة أو ينبغي أن تكون كذلك وذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية، وفي هذا البحث سوف نركز على الأبعاد الثقافية في المواجهة متخذين من (ثقافة المقاومة) وتجاربها كما تبدت في الحالة المصرية نموذجاً.
وفي البداية دعونا نسأل ما هى ثقافة المقاومة التى نقصدها ؟ وأين هى من واقعنا العربى وخاصة في ظل التطورات العالمية المعاصرة والمؤامرات الجديدة التى تحاك لمنطقتنا بعد الحادى عشر من سبتمبر 2001م ؟ وأين هى مصر ، كتجربة ؛ في ظل هذه الأحداث والأفكار؟
* بداية نعنى بـ (ثقافة المقاومة) لدى الشعوب ، تلك الثقافة التى تعلى من قيم الاستنهاض والعزة والمواجهة لدى الأمة حين يحيق بها الخطر الذى يهدد وجودها ، هى ثقافة تعنى استنفار روح التحدى لدى الشعب ، لدى النخبة ، لدى مؤسسات المجتمع الأهلى ، في مواجهة ثقافة آخرى للوهن ، والاستسلام ، يطلق عليها تارة اسم الواقعية ، وآخرى اسم (السلام) وايقاف العنف.
في هذا الاطار كانت (ثقافة المقاومة) هى الأصل لدى شعوبنا العربية والاسلامية في مواجهة دائمة عبر القرون الماضية وهى كانت دائماً في حالة دفاع شرعى عن النفس في مواجهة الغزوات الخارجية التى تريد احتلال العقل والعقيدة بعد احتلال الوطن ؛ والمتأمل للمحطات الرئيسية في مسيرة سيكتشف أن الأمة كانت في موقع الدفاع عن النفس ضد الهجمات القادمة من هذا الغرب الذي تريد افتراسها وتحطيم وجودها ؛ وهى محطات بدأت حديثاً بالتتار مروراً بالحروب الصليبية والاستعمار الغربى الحديث انتهاء بالغزوة الصهيونية والتى بدأت أوائل القرن الماضى (القرن العشرين) ولازالت قائمة لأكثر من مائة عام في تحالف مصلحى عدوانى مع الغرب وبخاصة الولايات المتحدة ، عبر هذه (المواجهات) التى وصلت الى قرابة العشرة قرون ، تشكلت لدى الأمة تلك الثقافة الممانعة ، ثقافة المقاومة ، والتى كان عمودها الفقرى العروبة و"الاسلام" : ديناً وقيماً وحضارة ؛ لقد أضحى الاسلام هو الجامع لهذه الثقافة ، ولهذا الوجود العربى – الاسلامى ، وهو الذى أعطى الروح لهذه الأمة، فنهضت وانتشرت وقاومت وانتصرت.
في مواجهة هذه الثقافة: ثقافة المقاومة، كان هناك دائماً، ثقافة آخرى تدعو الى (الوهن)، والى (القعود) بديلاً عن الجهاد والمواجهة وهى ثقافة كان يتولى دفنها بعض الحكام التابعين للآخر المهاجم، وبعض المثقفين والسياسيين والدعاة الذين ربطوا مصالحهم ومصيرهم وحياتهم بعجلة العدو الخارجى، وهم لذلك أنشئوا له في قلوبهم وضمائرهم، قبل ان ينشئوا في بلادهم؛ مكاناً رحباً ليقيم فيه، ويتوغل، باسم (الواقعية) تارة أو السلام والحوار تارة آخرى، وكان هؤلاء لا يظهرون عادة الا في أوقات المحن وضعف الأمة وغياب القيادات القادرة على المواجهة والجهاد.
* ثقافتان إذن في مواجهة بعضهما البعض، كانا هما ملخص المشهد التاريخى لأمتنا عبر تاريخها الممتد: ثقافة المقاومة وثقافة (الوهن)؛ دارت حولهما ومن خلالهما المعارك، وتعددت الاسماء واللافتات، وفقاً لكل عصر، ولكنهما ظلتا ثابتتين: فدائماً كان هناك، وسيظل خندقان: الأول يرفع لواء المقاومة والجهاد، والثانى يرفع لواء الوهن والقعود والاستسلام.
ذلك كان هو المشهد ، والمعادلة 00 عبر التاريخ ، وهى ذاتها اليوم ، ربما مع اختلاف الاسماء واللافتات ، ولكن المضمون واحد.
الثقافتان اليوم
اذا ما نظرنا وبعمق الى المشهد العربى والاسلامى الراهن ، سنشاهد صراع الثقافتين ، وكيف أن أحداث الحادى عشر من سبتمبر والانتفاضة الفلسطينية ثم المحاولات المحمومة لضرب العراق والعدوان الإسرائيلي على لبنان صيف العام 2006، والحصار والذبح العربي الإسرائيلي للشعب الفلسطيني خلال عام 2007، تمثل مجتمعة خلفية شديدة التأثير على مجرى الصراع ؛ فالاصطفاف الحالى يندرج في انقسام رأسى بين (خيار المقاومة) و(خيار الاستسلام) ، الأول يقاوم على المستوى الشعبى والمجتمعى مع بعض من تبقى شريفاً من الأنظمة العربية ، يقاوم دفاعاً عن وجوده ذاته وهى مقاومة تأتى بالدرجة الأولى من داخل فلسطين ولبنان ، ومن داخل الشعوب العربية والاسلامية في ايران وسوريا ومصر وغيرهم 0 والمواجهة لها (أى ثقافة الصهينة والاستسلام) تأتى من قبل الكيان الصهيونى والولايات المتحدة متحالفة مع العديد من أنظمة الحكم في المنطقة (وبخاصة منطقة الخليج العربى) ؛ وهى تستهدف في هذه اللحظة وجود الأمة ذاته وتريد اعادة صياغة وتشكيل خريطة المنطقة ، واعادة خلق العالم من جديد انطلاقاً من هنا : من بلادنا العربية ، أما الأرض الرئيسية للصراع الراهن فهى (فلسطين والعراق ولبنان) مع وجود امتدادات بالقطع على كافة جغرافيا الأرض العربية 0
* إن الثقافتين تتصارعان وبقوة منذ عامين أو يزيد في حلقة جديدة – خطيرة – من حلقات الصراع الممتد منذ النشأة العلنية للكيان الصهيوني 1948 وقبلها منذ بدايات الغزوات الغربية لبلادنا، وهما في صراعهما يستخدمان كل ما يمتلكان من امكانات ، وقدرات ومن الواضح أن ثقافة الصهينة أو فرض الاستسلام أو الوهن (أيا ما كانت التسمية) ، تبدو في المشهد الحالى ، منتصرة 0 ولكنه في تقديرنا انتصار مؤقت ، أو بمعنى أدق انتصار زائف انتصار من يريد القهر المادى والمعنوى الكامل للخصم ، هو لا يريد مجرد الهزيمة ، بل الموت ، والدمار الكاملين ، يريد الافناء وهذا اجمالاً ضد سنن الكون ، وتفصيلاً ضد طبيعة الثقافة، والدين والجغرافيا والتاريخ والحاكم لهذه المنطقة في العالم : منطقتنا ، والتى قد يظن المعتدى أنها قد دانت له ، وقد قهرت ، فإذا بها تصحو من غفوتها ، وتفيق ثم تقاوم وتنتصر.
أين مصر من هذا المشهد ؟
في اطار هذا المشهد الدرامى؛ نتساءل أين (مصر) منه؟ ومصر التى نعنيها، هى مصر – الدولة، مصر – الدور، وليس مصر النظام السياسى الحاكم الذى ربط حاله ومصيره ومستقبله – للاسف الشديد – بشرايين الدورة الدموية الإسرائيلية والامريكية في العالم ، وكبل أقدامه وأرجله بقيود المعونة الامريكية [حوالى 2 مليار دولار ] والتى تعود في أغلبها على من منحها في دورة شيطانية خطيرة ؛ تعود مادياً تارة أو على هيئة منافع سياسية وعسكرية تارة اخرى 0
والاهتمام بالسؤال: أين مصر من كل هذا نابع بالأساس من (محورية مصر) في عالمها العربى والاسلامى وليس لتعصب لها ؛ فهى عاصمة هذا العالم ، وهى جهازه العصبى (كما قال من قبل العالم الراحل جمال حمدان) ، وهى ان نهضت ، نهض وان قاومت قاوم ، وان هزمت هزم للأسف مهما حاولت الأطراف أن تستفيق وتقاوم 0
أين مصر من هذا الصراع الدامى بين الثقافتين ؛ ثقافة المقاومة ، وثقافة الوهن والاستسلام أمام المشروع الإسرائيلي الأمريكي الغربي؟ وهل لهاتين الثقافتين صدى واضح الملامح في مصر اليوم ؟
الحياة في موتكم قاهرين 
والموت في حياتكم مقهورين
الثلاثاء مايو 27, 2008 9:03 pm
