لقد كانت معركة ستالين- غراد (مدينة ستالين) معركة فاصلة في تاريخ الحرب العالمية الثانية، حيث دقت هذه المعركة إسفينا في خطط النازيين بالقضاء على الدولة السوفييتية التي فوجئت بالاجتياح النازي مفاجأة تامة. لقد تصدت مدينة ستالينغراد للغزو النازي في ظل ظروف رهيبة بعد أن طوقت من كل مكان. ومع ذلك استمرت المقاومة ونجحت بعد خمسة شهور، وهي مدة ليست باليسيرة، في التأثير على قدرات النازيين المعنوية والعسكرية لدرجة أن المدينة تعد في التاريخ العسكري السبب الرئيسي والنقطة الحاسمة في مسار انتكاس الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الثانية.
وكذلك اليوم تبرز معركة جنين- غراد كمعركة مفصلية في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، بعد أن سطر المجاهدون خلالها ملحمة بطولية مرغت كبرياء الجيش الصهيوني في التراب. هذا الجيش الذي يعتبره الخبراء العسكريون ثالث أفضل جيش في العالم من حيث الخبرة والتسليح والتطور التكنولوجي.
لقد عجز الجيش في السيطرة على مخيم جنين الذي تناهز مساحته الكيلومتر مربع، وجاء هذا العجز رغم قصف المخيم بالطائرات المقاتلات ومروحيات الأباتشي والمدفعية الثقيلة وجرف العديد من المباني بالآليات العسكرية.
إن معركة جنين- جراد وما رافقها من صمود أسطوري للمخيم أعطت درسًا كبيرًا لا يمكن تجاوزه، وهو أن قلة من المقاتلين بأسلحة خفيفة يمكن أن يواجهوا أعتى الجيوش ويوقفوها عند حدها إذا توفرت العزيمة والإخلاص.
كان يمكن لمعركة جنين- غراد أن يكون لها نفس الآثار المدمرة لتلك التي صاحبت معركة ستالينغراد فتكون فاتحة لنصر مبين. فستالينغراد شهدت مقتل أزيد من 800000 جندي نازي وأسر 110000 آخرين. كان من الممكن ذلك لو أن المجاهدين تلقوا دعما كالذي تلقاه المدافعون عن ستالينغراد.
لم يتلق المجاهدون الصامدون أي دعم يذكر من أي نظام عربي. والشنيع في الأمر أن هذه الأنظمة لم تتحرك لعجز أو لأن أسلحتها فاسدة كما كان التبرير سنة 1948. فالمنطقة هذه المرة مكدسة بكل ترسانات الأسلحة الحديثة. يكفي القول أن الإنفاق العسكري في منطقة الشرق الأوسط يعد من بين الأضخم في العالم. فقد صرفت دول المنطقة طيلة عقد التسعينات حوالي 60 مليار دولار سنويا . (1)
ونظرة واحدة في الإحصائيات العسكرية تدل على أن دولة عربية واحدة -كمصر مثلا- يمكنها مواجهة الكيان الصهيوني بنجاح فما بالك بها إذا اجتمعت.
فالجيش المصري ينفق في حدود 8.1 مليار دولار، ويناهز عدد قواته في الخدمة 370000 ويتوفر على 2705 دبابة حديثة (و895 دبابة من الطراز القديم) إضافة إلى 580 طائرة مقاتلة (من بينها 199 طائرة ف-16 و18 ميراج 2000). أما الجيش السعودي فيبلغ إنفاقه على الدفاع مبالغ خيالية، إذ تصل الميزانية السنوية ل2001 إلى 18.7 مليار دولار (أي بعبارة أخرى يساوي ميزانيات الدفاع لدى مصر 8.1 + إنفاق سورية 0.9 + إنفاق لبنان 0.5 + إنفاق الأردن 0.3 وهي الدول التي لها حدود مع الكيان الصهيوني + إنفاق الكيان الصهيوني 9 مليار دولار). ويبلغ قوات الجيش السعودي 126000 ويملك إحدى أقوى وأحدث الترسانات الجوية تبلغ 348 طائرة مقاتلة النفاثة من أحدث الأنواع و1055 دبابة من الأنواع الحديثة (لكن نصفها لا يستعمل ويضل قابعا في المخازن). أما الجيش السوري فتبلغ عدد قواته 321000 ويتوفر على 3500 دبابة صالحة للخدمة (من بينها 1700 من الطراز الروسيT72 ).
فإذا قورنت هذه الأعداد والمبالغ مع إمكانيات الكيان الصهيوني ترى عجبا. فالكيان الصهيوني لم يتعد إنفاقه على جيشه 9 مليار دولار في سنة 2001 ولا يبلغ عدد جيشه في الخدمة سوى 163500 ولا يتجاوز عدد دباباته الحديثة 1280 أما الطائرات المقاتلة الصهيونية فلا تتجاوز 446. فلا وجود إذن لأسطورة التفوق الصهيوني على الإطلاق.
بالعكس يتبين نظريا وبالإمكانيات الموجودة أن هناك تفوقا للجيوش العربية على الجيش الصهيوني. لكن الحقيقة المرة، وإن كانت معروفة منذ زمن بعيد، هي أن الأنظمة العربية الخائنة لا عذر لها ولا تعذير في عدم التصدي للجحافل الصهيونية.
لم يكن الغرض هنا التباكي على عدم تحرك الجيوش العربية لنصرة المجاهدين، ولكن الغرض هو تحطيم الأعذار الواهية التي تقدمها الأنظمة.
إن المدافعين عن جنين ولو بقلة إمكانياتهم مضوا إلى جهاد عدوهم إلى آخر رمق دون أن ينتظروا مساعدة الأنظمة العربية فهم يعرفون حالتها الضنكى، كما أن المتظاهرين في الشوارع العربية لم يطالبوا سوى بفتح الحدود للجهاد بأنفسهم ودون جميل أو منة من أحد. وهذه في حد ذاتها لطمة لأنظمة فقدت كل شرعية أو مبرر للاستمرار في الحكم.
لقد كانت الأنظمة العربية طيلة عقود من الزمن تعلل عدم إقدامها بإصلاح الاقتصاديات المتهالكة والتركيز على رفاهية المواطن العربي بأنها تواجه وضعا جيو-استراتيجيا صعبا يحتم عليها التركيز على إنشاء قوات مسلحة رادعة للمعتدين. ولكن يتضح الآن للشعوب العربية أن الأنظمة العميلة لم تحقق لا تنمية اقتصادية ولا ردعا عسكريا، اللهم إلا إذا كان في عرف هذه الأنظمة أن المعتدين هم الشعوب العربية ذاتها.
لقد أبدت معركة جنين- غراد نتائج كثيرة :
1- إن أسطورة التفوق الصهيوني لم تعد قائمة، فحصيلة معركة جنين لوحدها من الجانب الصهيوني تعد الأثقل في تاريخ النزاع الفلسطيني- الصهيوني. وهي وإن تبعها تدمير للمخيم وقتل وتشريد أهله إلا أن المعركة لقنت درسا للصهاينة.
2 - إن الجيش الصهيوني يضعف في مسرح العمليات داخل المدن. وقد ظهر هذا منذ فشل كتيبة للمضليين الصهاينة من السيطرة على مدينة السويس خلال حرب أكتوبر 1973 وما تلا ذلك من تكبدهم لخسارات كبيرة . (2) ما كانت تجربة الصهاينة في بيروت 1982 مؤلمة لدرجة أنهم لم يجرؤوا على اقتحامها بعد تعرضهم لخسائر بشرية هامة واكتفوا بالقصف المدفعي والجوي المكثف . (3) ونفس الشيء يقال على الاحتلال الصهيوني للبلدات اللبنانية الأخرى.
3 - إن الجيش الصهيوني خاض معركة جنين- غراد بأفضل وحداته، ومع ذلك فإن المجاهدين تمكنوا من إدارة المعركة بشكل ممتاز عبر شن معارك كر وفر وزرع عبوات وتلغيم الطرق وتدمير الآليات، لدرجة فوجئ الجيش الصهيوني بوجود مثل هذه القدرة لدى الفلسطينيين.
4 - إن خوض الجهاد داخل المدن خيار استراتيجي داخل الأراضي المحتلة، وذلك لأن المدن مهمة كونها مراكز جاذبية على المستوى السياسي والاقتصادي والمعنوي، إضافة إلى أنها محاور لوجيستية وعملياتية، كما تقدم إمكانيات للإحتماء من بطش العدو. من جهة أخرى لا يمكن للعدو أن يسيطر على المدينة إلا بتدمير المدينة ذاتها مما يزيد من المشاكـل الاستراتيجية للعدو، الذي يحتاج إلى دعم الأهالي أو على الأقل حيادهم وإلا ازداد الموقف سـوءا بالنسبـة إليـه . (4)
إن التكنولوجيا العسكرية وإن كانت مهمة إلا أنها لا تعوض البعد البشري. إذ يبقى الجندي، لا التكنولوجيا، العامل الحاسم . (5) وهذا ما يتبين بكل وضوح في معركة جنين- غراد والتي ظهرت فيها قيمة المجاهد الإسلامي أفضل بمئات المرات من قيمة الجندي الصهيوني. فرغم كل المساندة المدرعة والجوية إلا أن الجندي الصهيوني غارق حتى النخاع في الوهن والجبن بينما المجاهد الفلسطيني بلا إمدادات وبلا أكل وشرب وبلا دواء يستبسل في القتال حتى تخلص ذخيرته فيلجأ إلى استعمال السلاح الأبيض في مقام بطولي قل نظيره.
7 - إن معركة جنين- غراد أرخت للتراجع العسكري للكيان الصهيوني، فبعد أن كان الجيش الصهيوني يهزم الجيوش العربية في أقل من سبعة أيام كما حصل في حرب 1967، ها هو الجيش الصهيوني يقف مذهولا أمام مخيم للاّجئين لأكثر من عشرة أيام. لقد شكلت الانتفاضة الثانية مناخا مثاليا لتطوير القدرات العسكرية للمجاهدين، وزاد التضامن الجهادي من تبادل الخبرات المتراكمة، وكانت ثمرة ذلك زيادة الضغط على الصهاينة وتقليص الهوة بين الطرفين.
8 - إن الجنود الصهاينة لم يعودوا في أي مأمن، فلا الحواجز العسكرية ولا الدوريات ولا دبابات ميركافا، تستطيع حماية الغزاة الصهاينة من انتقام المجاهدين، وعلى إثر ذلك فإن معنويات الصهاينة بلغت الحضيض. معلوم أن هناك العديد من الدراسات تطرقت للأزمات النفسية التي أصابت الجنود الصهاينة في مختلف الحروب التي خاضها هؤلاء، ويتبين أن المشاكل النفسية تزايدت من بضعة حالات سنة 1948 إلى 18% من الجرحى خلال اجتياح لبنان سنة 1982. (6) وشكلت الانتفاضة الأولى ثم انتفاضة الأقصى من رعب الصهاينة وانسحابهم من المعركة إثر تعرضهم لأزمات نفسية. وقد وردت بعض التقارير في أن معركة جنين- غراد بالتحديد شهدت العديد من هذه الحالات، حيث سحبت القيادة الصهيونية الكتائب تلو الكتائب من الميدان، واضطر قائد الجيش الصهيوني للحضور بنفسه للتهدئة من روع الجنود المرعوبين. ناهيك أن هناك تزايدا ملحوظا في حالات جنود النخبة الذين رفضوا المشاركة منذ البداية في أي اقتحام للأراضي الفلسطينية بسبب "أزمة الضمير" . (7)
9 - إن معركة جنين- غراد وما صاحبها من اقتحام للمناطق الفلسطينية يهدف منها الجانب الصهيوني إلى تعديل الأرقام والإحصائيات التي تؤرق قادته. فقد قلص المجاهدون من هوة الخسائر البشرية بين الطرفين لدرجة وصلت إلى قتيل صهيوني واحد مقابل ثلاثة من الفلسطينيين، بعد أن كانت واحدا مقابل عشرة في الانتفاضة الأولى، وكانت واحدا إلى مائة في بعض الحروب ضد الجيوش العربية سابقا.
لكن وحتى وإن نجح الاحتلال الصهيوني في تعديل الأرقام، إلا أن هذا لا يبرهن على كسبه المعركة استراتيجيا. وقد لاحظ هذا الخبير العسكري الصهيوني المعروف مارتن فان كريفيلد الذي بين أن الأرقام تكون دائما في صالح الغزاة، لكن مع ذلك يضطرون للانسحاب مهزومين في الأخير. فقد قُتل خمسون ألف أميركي بمقابل ثلاثة ملايين فيتنامي، كما قتل عدة آلاف من الفرنسيين بمقابل (300) ألف من الجزائريين. وفي البلقان قتل خلال الحرب العالمية الثانية عشرات الآلاف من الجنود الألمان، مقابل (800) ألف يوغسلافي . (
10 - إن نتائج معركة جنين- غراد وما رافقها من ممارسات بشعة تذكر بما حدث خلال حرب التحرير الجزائرية ضد فرنسا، حيث ظن القادة الصهاينة أنهم حققوا الكثير بسقوط مخيم جنين والقضاء على المقاومين فيه، كما ظن القادة الفرنسيون فيما قبل أن سقوط المقاومة في الجزائر العاصمة حسمت الحرب. لكن تبين لهم بعد سنتين أن الممارسات البشعة التي ارتكبها الجيش الاستعماري الفرنسي سببت التحاق المزيد من الجزائريين بالمقاومة، ورجحت الكفة سياسيا وعسكريا لصالح الجزائريين. وكذلك ستتبدد أوهام شارون وعصابته ولو بعد حين.
11 - إن المقاومة الإسلامية سجلت عبر عملية حيفا الاستشهادية الرائعة نقطة هامة، وهي أن العمليات الاستشهادية سلاح استراتيجي للمقاومة سيستمر في النفاذ إلى كل الأهداف في الكيان الصهيوني بلا هوادة، لأن هذا السلاح هو الذي أقض مضاجع الصهاينة وخلخل كل حساباتهم الأمنية والعسكرية، وجعلهم يطلبون عبر عرابيهم التنازل عن هذا السلاح الفتاك بعدما تيقنوا من ضراوته.
يظهر بعد كل هذا أن معركة جنين- غراد معركة محورية في تاريخ الصراع ضد الصهاينة بوجه عام، بحيث كشفت العديد من عورات الجيش الصهيوني في مقابل أداء فلسطيني هائل سيكتب بماء الذهب في التاريخ. لقد حاول الجيش الصهيوني أن يعوض نقائصه بالاعتداء على المدنيين العزل والنساء والأطفال. ولا شك أن الرد الإسلامي سيكون في المستوى المطلوب بإذن الله، خاصة وقد ذاعت الروح القتالية العالية والخبرات "الإرهابية" المطلوبة، بشكل سيجعل شارون وزبانيته يدفعون الثمن غاليا لما جنوه في جنين.