طبيعي أن اعتراف الأمريكيين بأزمتهم على أنها عابرة، بينما هي مستعصية، يترتب عليه إتباع سياسات خاطئة
وارتكاب أفعال مدمّرة غير مجدية، تحديداً في ما يتعلق بالبعد الأممي للأزمة، فما لا يريدون الاعتراف به هو أن
الأزمة نجمت عن اضمحلال القوة التاريخية التي أعطتهم مكانتهم العالمية لقرن من الزمان، تلك القوة الأخلاقية
والمعنوية والسياسية التي طالما تمتعت بجاذبية لا تقاوم، وطالما حظيت بإعجاب وتأييد الكثيرين من غير الأمريكيين،
بغض النظر عن عدالتها ومنطقيتها أو عدم عدالتها ومنطقيتها، وها هي اليوم وقد فقدت جاذبيتها وقدرتها على التعبئة البشرية لصالحهم!
أيضاً ينبغي أن نضيف إلى السبب الأخلاقي والمعنوي والسياسي السبب الاقتصادي، فقد اضمحلت القوة الاقتصادية
الذاتية الأمريكية بدورها، وهو الاضمحلال الذي بدأت أعراضه بالظهور والتفاقم منذ عام 1969 أي منذ أعلن عن تحوّل
الولايات المتحدة من دولة مصدّرة إلى مستوردة (للنفط خاصة) ومن دائنة إلى مدينة!
وبالطبع لا يجوز تحديد وتقييم اضمحلال القطاع الاقتصادي الأمريكي الذاتي، أو الوطني، بمقارنته بالقطاعات الاقتصادية
للدول الأخرى، فهو بفضل بعده الإمبراطوري يبقى ضخماً وجباراً ومزدهراً، إنما ينبغي النظر إلى اضمحلاله من زاوية
استقرار مكانته القيادية الدولية أو عدم استقرارها، ومن الواضح أنه فقد الكثير من المؤهلات التي تعطيه الحق بالاحتفاظ
بهذه المكانة، لكنه يحتفظ بها عنوة واقتداراً، معتمداً فعلاً على مجرّد القوة العسكرية!
لقد حاول الأمريكيون منذ عام 1969 معالجة أزمتهم البنيوية التاريخية، لكن الحلول التي وضعوها كانت جميعها مؤقتة،
تصلح الأوضاع آنياً من جهة وتعمق الأزمة من جهة أخرى، مثل مضادات المرض العضال!
ثم كان انهيار الاتحاد السوفييتي، فانتعش حلمهم بقرن أمريكي عالمي قادم، وانطلقوا بقوة في هذا الاتجاه وقد رأوا
أنفسهم كأنما هم القوة الوحيدة المؤهلة للإمساك بزمام الاقتصاد العالمي، ولوضع اليد على مجمل الموارد الطبيعية
في جميع القارات بعد تطويع دولها وفرض الوصاية عليها، فالقوى الأخرى أصبحت من وجهة نظرهم، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي
مجرّد قوى إقليمية لا تستطيع سوى التعايش مع وجود القوات الأمريكية على مقربة منها، كما شرح
زبيغنيو بريجنسكي في كتابه (الفرصة الثانية).
لقد اعتقدوا حينئذ أن الطريق أصبحت ممهّدة لأمركة العالم أو صهينته أو عولمته لا فرق! غير أن الرئيس جورج بوش الابن
كما يشرح بريجنسكي في كتابه، أساء استخدام تلك الفرصة النادرة وأضاعها باجتياحه للعراق! لقد انهارت المكانة المرموقة
للقوات الأمريكية بعد أن استنزفتها حروب الشوارع العراقية كما يقول بريجنسكي، وهو يعتقد (ولعله يتمنى) أن الولايات المتحدة
لا تزال أمامها فرصة ثانية لتصحيح مسارها، وإلا فإن أفول نجم الإمبراطورية الأمريكية - كما يتوقع بريجنسكي - سوف يبدأ بأسرع
مما يتوقع الكثيرون في هذا الزمن الذي تتسارع أحداثه بوتيرة لم يكن تصوّرها ممكناً قبل بضعة عقود!
ها هنا ينبغي الانتباه إلى أن الاضمحلال الأمريكي الأخلاقي والمعنوي والسياسي، والاقتصادي أيضاً، لم يشمل القوة العسكرية
الأمريكية الصماء، التي بقيت على جبروتها بل صارت اليوم أعظم جبروتاً وأشدّ قوة وبطشاً، لكن هذه القوة العسكرية الجبارة
فقدت القدرة على تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية العظمى بسبب اضمحلال العناصر الأخرى المشار إليها، والتي
يبدو اضمحلالها واضحاً في تركيبة الإدارة الأمريكية وفي أدائها السياسي والعسكري غير العقلاني.
لقد تغيّرت أوضاع العالم جذرياً عما كانت عليه قبل حوالي أربعين عاماً، فالنمو البشري والمادي بلغ حداً يتناقض كلياً مع إمكانية
تحقيق الحلم الإمبراطوري الأمريكي، وأصبح الإصرار على المضي قدماً في استخدام القوة العسكرية الصماء، مهما بلغ جبروتها،
دليلاً من دلائل الأزمة المستعصية والضعف التاريخي وعاملاً من عوامل استفحالهما،
وهو ما يظهر جلياً في ميادين القتال العراقية والأفغانية خصوصاً.
غير أن العمليات العسكرية يمكن أن تستمر طويلاً، والكوارث يمكن أن تتوالى تباعاً، إذا لم يدرك الضحايا طبيعة ما يتعرضون له
وحقائق القوة التي يواجهونها، وللأسف الشديد فإن الغالب على خطاب الضحايا هو عدم الإدراك الكافي، فبينما يدعو البعض
إلى إلحاق بلادهم واندماجها في السوق الأمريكية، طوعاً أو كرهاً، ويعتبرون الاحتلال عملية تأهيل إيجابية ضرورية لبلدانهم
يمكن أن تحقق لها الاستقرار والازدهار والنمو والتطور، منطلقين من حتمية السيادة الأمريكية العالمية لعشرات السنين القادمة،
يظهر البعض الآخر، من قادة المقاومة والممانعة العرب وغير العرب، استخفافاً مقلقاً بالقوة الأمريكية الصماء، فيتحدثون كأنداد
للولايات المتحدة، ويتصرفون كأنما هي قابلة للهزيمة الحاسمة في جولة واحدة وخلال فترة زمنية قصيرة محدّدة!
لا يجوز الاستسلام للهيمنة الأمريكية كأنما هي قدر لا مفر منه، وكأنما هي لا تزال قادرة على السيادة، وعلى معاملة البلدان
المغلوبة اليوم كما عاملت ألمانيا واليابان في عمليات بنائهما بعد الحرب العالمية الثانية، فهي لم تعد قدراً من جهة، ولم تعد
تملك للمغلوبين سوى المزيد من التخلف والدمار من جهة أخرى!
كذلك لا يجوز الاستخفاف بقوتها، والتعامل معها كندّ متكافئ، فذلك يعطيها الفرصة للإفراط في استخدام قوتها الصماء،
ولإلحاق أفدح الأضرار والمصائب بالبلدان المستضعفة التي يتصرف قادتها كأنداد لها!
إن البلدان المقاومة والممانعة بلدان مظلومة، ضعيفة ومقهورة وفي حالة دفاع عن النفس وتطلع مشروع إلى علاقات
دولية نظيفة وعادلة، ويجب أن تظهر هذه المعاني واضحة وتبقى ثابتة ومستمرة في خطابات قادتها ورؤسائها، فلا تأخذهم العزّة بالوهم!.
مٌعٌٍ تٌمٌنٌٍيٌٍآإتٌيٌٍ لٌكٌمٌ بآلٌنُجُآٌإحُ آلدٌٍآئٌمٌٍ