خواطر من زيارة إلى ألمانيا.. بقلم: جبران كورية
دمشق
صحيفة تشرين
الصفحة الاولى
الاثنين 4 آب 2008
إن زيارة ألمانيا في كل الأحوال والمناسبات، وفي كل فصول السنة، هي مناسبة لرؤية بلد يصلح لأن يكون انموذجاً للشعوب الأخرى، سواء اختارت هذه الشعوب النظام الرأسمالي أو النظام الاشتراكي.
عندما وجد الألمان أنهم وصلوا متأخرين عن الدول الاستعمارية الأخرى إلى ميدان المنافسة على المستعمرات والمواد الأولية والأسواق قبلوا التحدي الذي أعلنته دولتهم، المشكلة من اتحاد الدويلات والإمارات الألمانية، فأخذوا يعملون أكثر ويقبلون بأجور أقل وخدمات أقل ويسعون إلى دخول الأسواق بنوعية أفضل وأسعار أرخص ووطدوا مكانة دولتهم في العالم وتحملوا أعباء الحروب والنزاعات وجعلوا هذه الدولة واحدة من الدول الكبيرة المرهوبة الجانب في أوروبا تنافس الدول الرأسمالية الأخرى على المكانة والنفوذ والقوة والمواد الأولية والمستعمرات.
وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية إلى ما انتهت إليه وقامت في شرق ألمانيا دولة يرعاها ويحميها الاتحاد السوفيتي تدين بالاشتراكية وتشكل عنصراً هاماً في منظومة الدول الاشتراكية في أوروبا وجزءاً من النظام الاشتراكي العالمي، جعل الشعب الألماني من هذه الدولة إحدى الدول الطليعية في المعسكر الاشتراكي وإحدى الدول الصناعية العشر الأولى في العالم.
وأذكّر بهذه الحقائق لأقول إن هناك الشيء الكثير الذي نستطيع تعلمه من الشعب الألماني وما اجترحه في ظل الرأسمالية وظل الاشتراكية.
وقد لا يكون خطأ أن نتعلم من هذا الشعب ومن حكامه الذين قدموا إليه «الجوائز» على مواقفه وتضحياته وعمله وإخلاصه لوطنه، هؤلاء الحكام قدموا إليه التأمين الاجتماعي والصحي يوم كانت الدول الأخرى لا تعرفه وقدموا إليه الأمل بأن «تكون ألمانيا فوق الجميع» وفي ظل الاشتراكية جعلوا من ألمانيا الديمقراطية التي قامت في أفقر المناطق الألمانية بعدد السكان وبالصناعة والمواد الأولية، دولة متقدمة ومتطورة في المنظومة الاشتراكية، كما جعلوا من ألمانيا في ظل الرأسمالية دولة صناعية متطورة جداً ذات اقتصاد متين وقوي تنافس على المقدمة في العالم الرأسمالي.
لقد أتاحت لي مكرمة الرئيس بشار الأسد بإرسالي إلى ألمانيا للعلاج من المرض الخبيث والوحشي المسمى «السرطان» الفرصة للاطلاع على التطور الذي وصلت إليه ألمانيا واستخلاص بعض العبر منه.
ويحزنني أن أقول إن بعض ما يجري عندنا يدعو إلى الخجل، لقد كنت لدى البروفسور الدكتور كورت فيرنر يوسنغر في مشفى «الشاريته» في برلين وهو رئيس القسم المختص بالسرطان «وحواشيه» يستعرض معي نتائج التحاليل والصور المختلفة الأنواع والألوان والفرص المتاحة للمعالجة ومدى النسب المتوقعة للنجاح في كل اتجاه من اتجاهات المعالجة، وعندما وصل إلى الحديث عن المعالجة الكيميائية سألته عن إمكانية الخضوع لها في بلدي سورية.
وهنا ابتسم ابتسامة باهته وسألني ألم تقرأ في الصحف أخبار التلاعب بأدوية معالجة السرطان في سورية؟ هل عندك الشجاعة للخضوع للعلاج هناك؟
للحقيقة أقول: لقد صدمت في البداية وتوقف الكلام عند شفتي ولم أتكلم
ولم يتركني الطبيب لصمتي وأنا أردد في داخل نفسي:
لعن الله الفاسدين والمفسدين الذين يسيئون إلى الوطن.. إساءات أين منها إساءات الأعداء؟!!! بل خرق الصمت قائلاً: إذا أمنتم الدواء من سورية فسأتولى أنا اختباره وإجراء «الجرعتين الأوليين» وسأشرف على تركيب وتنفيذ الجرعات الأخرى التي ستجرى في سورية.
وبالمناسبة إن الفساد ليس وقفاً على سورية والدول النامية عموماً بل هو داء منتشر حتى عند الدول المتقدمة والمتطورة، في تلك الدول لا ينتشر عند صغار الموظفين الذين يكفيهم راتبهم ولا عند الشرطي الذي لا يجد حرجاً في فتح اليد «لإطعام الأولاد» بل يذهب صعوداً إلى الطبقات العالية المستوى في الاقتصاد والسياسة.
قبل أيام لا تزيد على أسبوعين ضجّت ألمانيا بفضيحة فساد وصلت أرقامها إلى مليار من اليورو، ولم يقتسم هذه الأموال صغار وكبار الموظفين بل ذهبت إلى ما يسمى «صندوق أسود»، وهذا الصندوق الأسود النوايا والخبايا مخصص للفاسدين في مختلف بلدان العالم الذين يعقدون الصفقات مع الشركة صاحبة المال.
وقد اعترف مدير شركة «سيمنس» وهي من أكبر الاحتكارات في ألمانيا بأن المبلغ الصغير البالغ ملياراً و300 مليون يورو ذهب إلى «الصندوق الأسود»، أي إلى الصندوق الذي يكافئ الذين يساعدون «سيمنس» على الفوز بالعطاءات في البلدان الخارجية ومنها البلدان النامية.
والمدير بالذات لم يلوث يديه بهذا المال فما يتقاضاه كاف لكل الاحتياجات التي تعترض سبيله.
ومن يقرأ هذا الخبر يكتشف الأسرار الكامنة وراء الصفقات التي تجرى في البلدان النامية وغير النامية، ولماذا تُطرد هذه الشركة ولماذا تستدعى منافستها، ولماذا يقبل هذا العطاء ويستبعد غيره.
وبمناسبة الحديث عن الفساد والإفساد والمفسدين تحضرني واقعة ألمانية تناسب المقام.
في يوم من الأيام نشرت إحدى الصحف الألمانية أن ابن المستشار الألماني السابق هلموت كول شوهد على مفترق طرق يقود سيارة والده الرسمية، وقد تناقلت الإذاعات والتلفزيونات هذا النبأ «الهام».
ولم يترك المستشار كول النبأ يبيت بل أرسل بياناً في اليوم نفسه إلى جميع أجهزة الإعلام ينفي فيه النبأ المختلق ويقول: إن ابنه كان يقود السيارة المملوكة للعائلة وإنه لم يحدث أبداً أن استخدام أحد أفراد العائلة إحدى السيارات الرسمية المملوكة للدولة والموضوعة تحت تصرف المستشار.
ليت الداء المُبتلى به المستشار كول يتحول إلى داء يصيب جميع حكام العالم.
الإثنين أغسطس 04, 2008 7:34 am
